رئيسٌ ما بعد حلب!
طوني عيسى/جريدة الجمهورية/الجمعة 14 تشرين الأول 2016
العاملون على التسوية في لبنان يطرحون السؤال على أنفسهم: هل المناخ الإقليمي التصعيدي يَسمح اليوم بهذه التسوية، أو على الأقل، هل يتيح «ميني تسوية» موضعية تنهي الفراغ الرئاسي؟ كان خطاب السيد حسن نصرالله الأخير عميقاً في مدلولاته السياسية. فهو عرض الأزمات في سوريا والعراق واليمن، معلناً المواجهة المفتوحة مع المملكة العربية السعودية، ثمّ جاء إلى التسوية الرئاسية في لبنان. وهذا التسلسل فسَّره البعض، ولاسيما خصوم «حزب الله»، بأنه إعلان واضح عن إجهاض التسوية المحتمَلة.
فإذا كان الجميع ينتظر اليوم كلمة الرئيس سعد الحريري ليقول نعم للعماد ميشال عون مرشحاً لرئاسة الجمهورية، وإذا كانت كلمة الحريري مربوطة ولو جزئياً برأي المملكة العربية السعودية، فهذا يعني أنّ خطاب نصرالله يبعث برسالة واضحة إلى الرياض تذكِّرها بأنّ عون الذي ينوي الحريري تبنّي ترشيحه هو مرشح المحور الذي تقاتله. وفي هذه الحال، سوف يكون قبول السعودية بتبنّي ترشيح عون بمثابة معجزة حقيقية، وتالياً، سيكون الحريري في انتظار معجزة حقيقية يجب أن تتحقّق لإعلان القرار الذي ينتظره عون.
ولا يستغرب البعض ذلك قائلاً: أليس ترشيح الحريري للنائب سليمان فرنجية وترشيح الدكتور سمير جعجع لعون هما من نوع المعجزات السياسية؟ أوليست مجاهرة الرئيس نبيه بري بموقف صارم حازم رافض لعون، مرشح «حزب الله»، هي أيضاً من نوع الظواهر الخارقة؟ لذلك، يسأل خصوم «حزب الله»: هل مصلحة «الحزب» أن يخدم عون في اللحظة التي يأمل فيها إنضاج تبنّي ترشيحه للرئاسة أم إحراقه لدى السعوديين… وتالياً لدى الحريري الذي لا يمكن المراهنة على أنه سيغرّد خارج سرب المحور الذي تقوده الرياض، حتى إشعار آخر؟
فصحيح أنّ هناك اختلافاً في طبيعة العلاقة بين إيران وحلفائها والعلاقة بين السعودية وحلفائها في لبنان، لكنّ الثابت المشترَك هو أنّ أيّاً من هؤلاء الحلفاء، هنا وهناك، ليس في وارد الذهاب إلى خيارات بديلة. ويبدو، حتى إشعار آخر أنّ التسوية في لبنان محكومة بتفاهم المحورَين الإقليميَين عليها.
وإذا كانت رئاسة الجمهورية قد باتت جزءاً من السلّة المتكاملة، فهذا يعني أنها أيضاً رهن التفاهمات الإقليمية… غير المتوافرة. وصحيحٌ أنّ أحداً في لبنان لم يعد يتحدّث في الفترة الأخيرة عن معادلة السعودية- إيران، بعد استنفاد الـ»سين- سين» دورها، لكن ذلك لا يعني أنّ هذه المعادلة قد انتهت صلاحيّتها.
إنها مستمرة، ولكن لا فرص حالياً لتعويمها في ظلّ التصعيد الدراماتيكي بين قطبَي المعادلة الإقليمية. فكلّ مؤشرات الشرق الأوسط تظهر باللون الأحمر، والاشتباك الإقليمي في الذروة، من حلب إلى الموصل فصنعاء. وتبدو المنطقة في خضمّ عملية خلط أوراق كبرى بين القوى الإقليمية والدولية، حيث ظهرت بمعظمها خارج السياقات المتوقعة. والمعادلة التي ترتسم في الأسابيع الأخيرة تبدو كالآتي:
1- موسكو تضغط إلى الحدّ الأقصى، مع حليفها الإيراني، لتكريس وقائع ميدانية في سوريا. ويستغلّ فلاديمير بوتين الوقت الأميركي الضائع بين عهدٍ ينتهي وآخر يبدأ في البيت الأبيض.
2- القوى العربية الخليجية ضائعة، وغارقة خصوصاً في اليمن، فيما كانت الصدمة اقتراب مصر أكثر فأكثر إلى المحور الإيراني. وظهر ذلك جلياً في دعم القرار الروسي في مجلس الأمن. وهذا ما يقلّل من عزلة الأسد عربياً.
3- الولايات المتحدة مربَكة. فهي تتصرف بفتور مع السعودية الخائفة من تداعيات القانون المتعلق بتحميلها مسؤولية عن عملية 11 أيلول. كما يسود الفتور علاقة واشنطن بتركيا، على خلفية عدم تسليم الأميركيين عبدالله غولن بعد المحاولة الانقلابية واستمرار دعمهم الأكراد.
ولا يبدو واقعياً تهديد واشنطن باللجوء إلى القوة ضد نظام الرئيس بشّار الأسد. فجون كيري اقتنع باكراً من نظيره لافروف بإنقاذ الأسد من ملف الكيماوي، واعترف بضرورة استمرار الأسد ممسكاً بـ»سوريا المفيدة» حتى إشعار آخر، ووافقت واشنطن على التدخل العسكري الروسي لهذه الغاية. واليوم، يُرسِّخ بوتين ترسانة بحرية وجوية وبرية في مناطق الأسد، على مرأى من الأميركيين.
4- توحي المعارك العسكرية، من اليمن إلى العراق فسوريا، بأنها مرشحة للاستمرار من دون أفق. ومعركة حلب تبدو طويلة. ومن اللافت أن تلتزم تركيا الصمت تجاه مجرياتها، فيما هي تبدو أشدّ اهتماماً بعملية «درع الفرات» وبالموصل ومصير «داعش» والمخاوف من الأكراد.
وإذ ظهرت الوعود الأميركية بدعم المعارضة السورية بمثابة شيكات بلا رصيد، فمن المرجّح أن يتمكّن الأسد من السيطرة على الأحياء الشرقية، بدعم روسي، بعد عملية تدمير وإفراغ ممنهجة لها من السكان.
5- لا تبرز ملامح تسوية من الجولات السياسية المقبلة، بدءاً من اجتماعَي لوزان ولندن، السبت والأحد المقبلين. والواضح أنّ الروس يريدون الاجتماعات لرفع العتب وإبعاد أيّ شبهة عن دورهم في الملف السوري.
وانطلاقاً من هذه الخطوط العريضة، تبدو المنطقة أمام تصعيد مفتوح. وكثيرون يعتقدون أنّ لبنان لا يمكن أن يكون إلّا جزءاً من الاشتباك الدولي- الإقليمي في الشرق الأوسط، وأنّ البحث عن تسوية في لبنان خلال هذه المرحلة، ولاسيما في الملف الرئاسي، هي عملية عبثية، بل هي جزء من لعبة تقطيع الوقت التي يحتاج إليها البعض لإلهاء الآخرين عن المسائل الاستراتيجية.
ولكن، في المقابل، يراهن المتفائلون على أنّ القوى الداخلية قادرة على إنتاج تسوية محلية صغيرة تقتصر على انتخاب رئيس للجمهورية، ولا تتعداها إلى أن تكون دوحة أخرى أو طائفاً آخر. وهذا الرئيس لا يترجم انتصار فريق داخلي على آخر، بل إرادة التفاهم لإعادة الانتظام إلى عمل المؤسسات.
وهذه التسوية لا يحتاج إبرامها إلى تغطية القوى الإقليمية المتصارعة، لكنها تحتاج إلى أن تثبت القوى المحلية المتعاطفة مع المحاور الإقليمية مقداراً من الاستقلالية في قراراتها المحض داخلية.
إنه التحدي: أن «يظمط» اللبنانيون برئيس للجمهورية في خضم التصعيد الإقليمي فيثبتوا أنهم يتمتعون بحدٍّ من فكّ الارتباط عن الأزمات الإقليمية، وإلّا فإنهم يكرّسون ارتهان لبنان واستقراره للقوى الخارجية. وعندذاك، سينتظر اللبنانيون كثيراً من الوقت والتحوّلات ليكون لهم رئيس للجمهورية. انتظار للموصل وصنعاء، وانتظار لحلب وما بعد بعد حلب!