نحن وفرنسا… “طقس” داعشي!
نبيل بومنصف/النهار/16 تشرين الثاني 2015
لا يكفي التزامن بين تفجيرات برج البراجنة وباريس لإقامة الدليل على أن “داعش” تعمد استهداف لبنان وفرنسا معاً، ومع ذلك فإن وقائع الجحيمين الدمويين اللذين فتحهما يستدعيان التمعّن في هذا العامل. ذلك أنه لا يمكن تجاهل وحدانية عامل الكراهية والعدائية لدى الجماعات المتطرفة عموماً و”داعش” خصوصاً حيال فرنسا بالذات لاعتبارات كثيرة أسهبت مراكز الأبحاث في إظهارها منذ هجمات كانون الثاني الماضي وصولاً الى جحيم ليل ١٣ تشرين الثاني كما العدوانية التي تطبع الاستهداف الإجرامي ضد لبنان. في بعض ملامح هذه العدوانية يخال المراقب أن “داعش” سواء صحّ هذا الافتراض أم كان من صناعة التقديرات التقليدية التي يصعب علينا كلبنانيين أن ننفصل عنها، يضرب أيضاً وفق برمجة سياسية متعمدة في لحظة منتقاة. ربما لا يكون في ذلك أي شيء واقعي، ومع ذلك ترانا أمام “وحدة المصيبة” وبازاء التعاطف الواسع الذي أثارته لدى اللبنانيين مع فرنسا ننظر الى الكارثتين من منظار يحمل الكثير من الخصوصية.
من نماذج هذه الخصوصية أننا نرى “داعش” كأنه انقض على العلاقة التي تحمل الرمزية الأكثر رسوخًا لسايكس – بيكو في شرق أوسط ينازع تغيير الخرائط والهويات فأراد تعميم حربه على الشرق القديم بإشعال الجحيم الدموي في المكانين الأقرب الى استثارة الذعر شرقاً وغرباً. كما أن “داعش” الذي يستحيل فهم سلوكياته المتوحشة في معزل عن ايديولوجيات الفناء التي توجهه أقام أحدث طقوسه الدموية بدماء لبنانيين وفرنسيين ليعلم العالم بفتح حقبة جديدة من حربه المعولمة على الروابط بين الدول والشعوب التي تعد الأكثر تجسيداً للانفتاح والحريات. لسنا متيقّنين من أن العوامل الميدانية في سوريا والعراق هي الدافع الحتمي الذي دفع “داعش” الى إسالة حمامات الدماء في الضاحية الجنوبية لبيروت وبعدها بفارق يوم في سان دوني ومناطق مختلفة من باريس. هذه الظاهرة السفاحة تتجاوز بطبيعتها كل المحسوب وغير المحسوب، حتى ان دولا في الغرب والشرق وما بينهما باتت تقف عاجزة أمام أشد خطر يواجه العالم في التاريخ القديم والحديث إن بفعل قصور دولي مديد عن اجتثاث “داعش” وإن بفعل تواطؤات جعلته يتعملق مهدداً بافتراس الأمن العالمي وتخريب الحضارات وليس إشعال صدام الحضارات والأديان فحسب. لا تزال الفرنكوفونية متقدمة نسبياً في لبنان بما يتيح لكثر قراءة حكايات عشرات المآسي التي أوردتها الصحافة الفرنسية ومطابقتها مع عشرات أخرى من وقائع دراماتيكية وردت في الصحافة اللبنانية. ذاك ما يصنعه “داعش” واقعاً، إنه يوحد العالم ويستنفره في حرب بات إعلانها عليه عاملاً وجودياً لا يحتمل انتظار مزيد من المجازر المعولمة وانهار الدماء.
المنطقة الآمنة امتحان لأردوغان المنتصر
خيرالله خيرالله/المستقبل/16 تشرين الثاني/15
يبدو رجب طيب أردوغان الذي حقّق حزبه انتصارا تاريخيا في الإنتخابات الأخيرة، بما تجاوز حدود تركيا، شخصيتين في شخصية واحدة ورجل واحد. اي أردوغان الذي انتصر في انتخابات الأوّل من تشرين الثاني – نوفمبر؟ هناك اوّلا الرئيس أردوغان العاقل والعصري الذي عرف كيف يساهم في ازدهار تركيا ويضع الأسس لنهضة بعيدة المدى نقلت البلد الى قوة اقتصادية في مستوى سويسرا وكوريا الجنوبية. بات الإقتصاد التركي في المرتبة الثامنة عشرة عالميا ويزيد حجمه على 1,5 تريليون دولار، فيما معدّل دخل لفرد نحو عشرين الف دولار سنويا. هناك مطار يبنى في اسطنبول سيكون من اكبر مطارات العالم!
وهناك أردوغان زعيم «حزب العدالة والتنمية» الذي يصرّ على تعديل الدستور وعلى اقامة نظام رئاسي في تركيا. اكّد هذه النيّة قبل ايام قليلة في خلال احتفال بالذكرى الـ77 لوفاة اتاتورك. قبل كلّ شيء، لا بدّ من الإعتراف بان أردوغان استطاع في الأشهر الخمسة الأخيرة، التي مضت على الإنتخابات النيابية التي عجز فيها حزبه عن الإتيان بأكثرية نيابية، ان يكون مناورا من الدرجة الأولى. عرف كيف يستخدم كلّ الثغرات لدى خصومه لإستعادة المبادرة والوصول الى ما وصل اليه. صار في استطاعة حزب أردوغان تشكيل حكومة منفردا. لم تعد حاجة لا الى الأكراد ولا لأيّ حزب آخر في اليمين او اليسار. عرف أردوغان كيف يثير المشاعر الوطنية التركية مستعيدا ثلاثة ملايين صوت كان خسرها في انتخابات حزيران – يونيو الماضي لصلحة الحزب الكردي الصاعد، اي «حزب الشعوب الديموقراطية» و»»حزب الحركة القومية» اليميني. لعب أردوغان ورقتين. كانت الورقة الأولى تقوم على تخويف الأكراد من مواجهة محتملة ذات طابع شامل معهم ووضعهم بالتالي في سلّة واحدة مع «حزب العمال الكردي» المتهّم بممارسات ارهابية. اما الورقة الثانية، فكانت ورقة المزايدة على اليمين في مجال مواجهة التهديدات الأمنية. كانت النتيجة تحوّل «حزب الحركة القومية» الى الخاسر الأكبر في الإنتخابات. تبيّن ان أردوغان مناور من الدرجة الأولى. يثير فوز حزبه ارتياحا وقلقا في الوقت ذاته. يتمثّل مصدر الإرتياح في ان الرئيس التركي اتخذ منذ البداية موقفا واضحا من ثورة الشعب السوري. استقبلت بلاده عشرات آلاف اللاجئين السوريين الهاربين من ارهاب النظام والميليشيات المذهبية المدعومة من ايران ومن القصف الروسي الذي يستهدف حاليا المدنيين اوّلا.
كانت تركيا في كلّ وقت هدفا لأعداء الشعب السوري وثورته. كان بشّار الأسد يفضّل من دون شكّ بقاء الوضع السياسي غير مستقرّ في تركيا ومتابعة التنسيق مع ايران وروسيا بهدف الهاء أردوغان بمشاكل داخلية مختلفة بدءا بالإرهاب وانتهاء باختلاق كلّ نوع من انواع الأزمات. ولذلك كان ملفتا استعادة العملة التركية بعضا من عافيتها فور بروز دلائل على ان «حزب العدالة» سيحقّق انتصارا كبيرا.
ثمّة فهم عميق لدى أردوغان وكبار رجالات حزبه، بمن فيهم رئيس الوزراء احمد داود اوغلو، لطبيعة النظام السوري. فتركيا عملت في مرحلة معيّنة على تعويم هذا النظام قبل ان تكتشف انّه غير قابل للتعويم وانّ هناك مافيا عائلية – طائفية تصرّ على حكم سوريا بالحديد والنار ونهب ثرواتها.
هذا هو الجانب الإيجابي في انتصار أردوغان الذي تكمن مشكلته مع السوريين في التقصير في تقديم المساعدات المطلوبة للقوى المعتدلة وفضّل في احيان كثيرة دعم قوى متطرّفة. كان دعم مثل هذه القوى المتطرّفة بدل وضع تركيا امكاناتها في تصرّف المعتدلين مثل «الجيش الحرّ» من بين الأسباب التي عطّلت تحقيق الشعب السوري انتصارا سريعا على النظام. كان مثل هذا الإنتصار كفيلا بحماية سوريا ووحدة اراضيها. فالثابت ان ايّ تأخير في تحقيق مثل هذا الإنتصار يشكّل مساهمة في تفتيت سوريا خدمة للمشروع التوسعي الإيراني الذي بات يراهن حاليا على تقسيم البلد، بدعم روسي او من دونه.
هل تتغيّر السياسة السورية لأردوغان في المستقبل القريب، خصوصا بعد انكشاف دور ما بقي من النظام السوري وداعميه في استخدام الورقة الكردية وورقة الإرهاب ضدّ تركيا؟ هل تتمكن تركيا من اقامة «منطقة آمنة» في الشمال السوري بما يؤمن حماية للسوريين الهاربين من البراميل المتفجّرة؟ سيكون النجاح في اقامة «المنطقة الآمنة» الإمتحان الأبرز امام أردوغان في الأسابيع القليلة المقبلة. اي تركيا سنرى في عهد أردوغان الجديد المنتصر على خصومه؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يفرض نفسه بحدّة. لا شكّ ان الموضوع الكردي سيطرح نفسه بقوّة. هل من حلول لدى الرئيس التركي ام سيلجأ الى الخيار السهل، وهو خيار مغرٍ في الوقت ذاته، اي الى خيار القوّة كما فعل اخيرا، فكانت ترجمة ذلك صعود شعبية حزبه؟ كانت هناك حاجة اقليمية الى انتصار لـ»حزب العدالة والتنمية» في تركيا وذلك كي لا تضيع تركيا وتغرق في فوضى داخلية. لكنّ ثمّة حاجة الى عقلانية أردوغان التي توظّف قدرات تركيا في خدمة الإستقرار الإقليمي.
فوق ذلك كلّه، هناك حاجة الى تفهّم أردوغان لواقع اليم في قطاع غزّة المحاصر. ليس بالشعارات والسفن التي تضمّ متطوعين يمكن فكّ الحصار الظالم الذي يتعرّض له الغزّاويون. فكّ الحصار يكون بدفع «حماس» الى التخلي عن وهم «الإمارة الإسلامية» التي اقامتها في القطاع والتي لا تخدم سوى اسرائيل من جهة وتشكل تهديدا للأمن المصري من جهة اخرى. نعم، كانت هناك حاجة الى انتصار لحزب أردوغان من اجل استعادة تركيا استقرارها السياسي، وحتّى الإقتصادي، في ظل الخلل الذي يعاني منه التوازن الإقليمي. هذا الخلل عائد الى الهجمة الإيرانية التي تستثمر في الغرائز المذهبية، خصوصا في احدى اهمّ دول المنطقة، اي في العراق. كذلك، الخلل عائد الى الغياب الأميركي الذي سمح لدولة مريضة مثل روسيا ولرئيسها فلاديمير بوتين بلعب دور شرطي المنطقة انطلاقا من سوريا! ايّ شخصية من شخصيتي أردوغان ستبرز، او ستنتصر، في مرحلة ما بعد الإنتخابات؟ أردوغان العاقل الذي ساهم في بناء تركيا الحديثة انطلاق من ارث اتاتورك… ام أردوغان الذي اندفع الى تعديل الدستور واقامة نظام رئاسي على قياسه؟ في النهاية، صحيح ان الإقتصاد التركي قوي، لكنّ هذا الإقتصاد يعاني من مشاكل يعبّر عن جانب منها هبوط التصدير بنسبة 8,6 في الأشهر العشرة الأولى من العام الجاري. هناك ازمات داخل المجتمع التركي على رأسها الإنقسام بين العلمانيين والمتدينين، فضلا عن قضية الأكراد طبعا. نصف الشعب مع «حزب العدالة والتنمية» ونصفه الآخر ضدّه. هل يستطيع الرجل ان يكون عامل توحيد بين الأتراك ويتعلّم من الأخطاء التي قادت الى نتائج انتخابات السابع من حزيران – يونيو الماضي؟
الاعتذار لإيران!
عبد الرحمن الراشد/الشرق الأوسط/16 تشرين الثاني/15
لا أستغرب أن الرئيس الإيراني حسن روحاني اشترط، في حديثه لصحيفة إيطالية، على الولايات المتحدة أن تعتذر لبلاده، قبل فتح السفارتين في عاصمتي البلدين، حتى تصفح عنها! فتزوير التاريخ صار مرادفا للحديث عن الصراع في المنطقة، حتى لم تعد تعرف من هو المعتدي ومن المعتدى عليه.
والذي يشفع للرئيس روحاني زيادة مطالبه، أن بين العاصمتين علاقة حب جديدة، وإن كانت من طرف واحد. فالحكومة الأميركية تبدو مستميتة من أجل كسب ودّ السلطات الإيرانية، ومستعدة للانحناء تلبية لطلباتها. وكل ما دفعته إيران من ثمن لهذا الحب أنها قبلت بتجميد برنامجها النووي، الذي يعتبره البيت الأبيض إنجازًا عظيمًا يضعه في مصاف فتح الصين، ويماثل انهيار جدار برلين! السؤال: على ماذا يريد الرئيس روحاني من الأميركيين أن يعتذروا؟ من الذي أخطأ ضد من؟ بحساب بسيط نجد أن معظم الضحايا في عقود التوتر كانوا أميركيين. حتى إن أحد أعضاء الكونغرس استفسر من وزير خارجية بلاده، جون كيري، أكثر من مرة عن: كم قتل النظام الإيراني من الأميركيين؟ إلا أنه لم يجبهم برقم محدد. فتاريخ العنف الإيراني طويل، افتتح باحتجاز موظفي السفارة الأميركية في طهران، ثم قتل 17 أميركيا في الهجوم على السفارة في بيروت، وقتل 241 أميركيا في هجوم على مقر المارينز أيضا في بيروت. ودبر الإيرانيون أيضا تفجير مبنى المارينز في مدينة الخبر السعودية، الذي قتل فيه 19 وجرح 240 أميركيا، وخطفوا طائرة «TWA». عدا عن عشرات العمليات الإيرانية الأخرى ضد أفراد ومصالح أميركية في منطقتنا، وكذلك في أوروبا، وأميركا الجنوبية، بل وفي داخل واشنطن نفسها، حيث أحبط الأمن الأميركي مؤامرة هدفها اغتيال السفير السعودي. عدا عن مئات القتلى من الجنود الأميركيين في العراق وأفغانستان الذين استهدفوا بدعم من إيران. وإذا كان الاعتذار ضرورة لطي خلافات الماضي، فإن على يدي إيران الكثير من الدم في سنوات الاضطراب الماضية، تدين بالاعتذار عنه للكثير من الدول، بما فيها الولايات المتحدة.
قد يكون التأسف المطلوب بدعوى تأييد الأميركيين لنظام الشاه سنين قبل الثورة. والواجب في هذه الحالة أن تعتذر الحكومة الأميركية للشعب الإيراني، ليس لأنها دعمت الشاه، بل لأنها تخلت عنه، ودفعته إلى ترك عاصمته، ثم رفضت السماح بعلاجه في مستشفياتها عندما جاءهم لاجئا، وكان يعاني من مرض السرطان. ساهم موقف الرئيس الأميركي جيمي كارتر في استيلاء نظام ديني متطرف على النظام في طهران، أشعل العالم لعقود تالية بالفوضى والحروب. وهناك مطلب يتكرر من واشنطن بلومها على ما يعتبرونه دعمها نظام صدام حسين في حربه مع إيران.. للحقيقة، الولايات المتحدة كانت سعيدة أن ترى عدويها اللدودين، نظامي صدام والخميني، يتقاتلان. لم تكن في صف صدام ولا صف إيران. تركت لإسرائيل المتاجرة بالسلاح الأميركي مع طهران، والخليج يقوم بتمويل السلاح لبغداد. كانت واشنطن تحرس فقط مصالحها البترولية في الخليج، الممرات البحرية وناقلات النفط الكويتية ضد الاعتداءات والألغام الإيرانية.
هذا موجز تاريخ العلاقة السيئة بين واشنطن وطهران. ولا بد من التذكير بأنه رغم الدم والعداء، لم تلجأ الولايات المتحدة قط إلى محاولة إسقاط النظام الإيراني بعد الثورة. فقد قامت سياسة البيت الأبيض على الاحتواء، ومحاولة إجبار النظام على تغيير سلوكه وليس تغييره. مرت أكثر من ثلاثين عاما مضطربة، وعندما أدرك المسؤولون الإيرانيون فشل سياستهم العدوانية، وشعروا بالاختناق جراء مقاطعة الغرب لهم تجاريا، قرروا أخيرًا المجيء إلى طاولة المفاوضات، وهم في لحظة شبه إفلاس مالي. واختصر الجانب الأميركي طلبه في تجميد البرنامج النووي الإيراني عشر سنوات، ووعدت إيران مقابلها برفع العقوبات عنها، وتسليمها أكثر من مائة مليار دولار من أموالها المحتجزة، وإنهاء حالة المواجهة. ورغم هذا التساهل، لا ترى الحكومة الإيرانية ما منحته واشنطن لها كافيا، بل تريد من الأميركيين أن يعتذروا أيضًا! بذلك تلعب دور الضحية، تطالب بالاعتذارات، والتعويضات.