الناس أولاً …
علي حماده /النهار/22 أيلول 2015
أدى الحراك المدني المطلبي الى تحريك الوضع على الساحة اللبنانية، على قاعدة ان اللبنانيين الذين كانوا يغطون في سبات عميق مدى سنوات طويلة ربما نسوا أو تناسوا أن الصراع الكبير في البلد بين خيارين لا يلتقيان، لا يعني بالضرورة ان يموت الناس جوعا، ولا أن يغرقوا تحت أطنان من النفايات من دون حل، لا يجوز أن يكون موضع خلافات بين القوى الكبرى. بناء عليه، دفع الحراك المدني القيادات السياسية الى التفكير جديا في أن تأجيل الخلافات الكبرى التي تعني مصير لبنان، لا يجوز أن ينسحب على قضايا الناس الحياتية، وبالتالي فإن من واجبات المسؤولين الى أي فئة انتموا أن يميّزوا بين القضايا الخلافية الكبرى التي لا حل لها راهناً، والمسألة الحياتية التي تمس لقمة الخبز والحد الادنى من المستوى المعيشي المطلوب في لبنان. هذا الكلام هو دعوة الى جميع المسؤولين الحكوميين ومرجعياتهم للالتفات الى حاجات الناس الاساسية، والاستماع الى صرخات الناس وغضبهم من سوء ادارة شؤونهم اليومية والحياتية. أما الصراع الاكبر فيظل بنظرنا الاساس، على قاعدة ألا يموت الناس وهم في انتظار الحلول الكبرى في لبنان والمنطقة. في المقابل نودّ أن نذكّر القيمين على الحراك المدني ببعض الاساسيات التي تحكم الامور في لبنان، وأولها أن في لبنان صراعا كبيرا يتعدى الاطار الذي انطلقوا منه، أكان أزمة النفايات، أم آفة الفساد المستشري، وهذا الصراع محلي – اقليمي واسع وممتد في الزمان والمكان، وهو الحد المقرر في مستقبل البلاد باعتبار لبنان جزءاً، ويا للأـسف، من مسرح الصراع الاقليمي الكبير بين النظام العربي والمشروع الايراني. العراق جزء من المسرح، ومثله سوريا واليمن، ولبنان لا يشذ عن القاعدة، وان كان شهد منذ تشكيل الحكومة الحالية مرحلة “تهدئة” استندت الى تفاهمات اقليمية أمّنت لها مظلة. وللتذكير هنا، فإن الحكومة الحالية عكست رغبة في تحييد لبنان الداخل عن انفجار شامل، من دون أن يلغي عمق الخلاف حول طبيعة البلد ودوره وموقعه ومستقبله. هذا الخلاف، لا بل التضاد، لا يزال قائماً أكثر من أي وقت مضى، وإن يكن انتباه الناس تحوّل صوب الحراك المدني في الشهرين الماضيين. في اختصار، ان الصراع العميق بين خطين متعارضين في البلد قائم، ومع ذلك فإن اخفاق الطرفين الكبيرين في التعامل مع الحد الادنى من حاجات الناس ومطالبهم لا عذر له. لقد قامت “حكومة الأضداد” على أساس متابعة شؤون الناس الحياتية واليومية ومعالجتها، وتحييدها عن الصراع الكبير. ولذلك على الحكومة الحالية ومرجعياتها وقبل سقوط “التهدئة” الالتفات اكثر الى قضايا الناس، والتخلص من تخبّطها المحزن. إن الفريقين الكبيرين مطالبان بالالتفات الى الناس لأن لا السلاح يطعم الجياع، ولا السيادة والاستقلال تروي العطشى! أما الحلول الكبرى فبعيدة المنال.
عن “أبو رخوصة” وأهله
راشد فايد /النهار/22 أيلول 2015
لا سوق “أبو رخوصة” سيعيد وسط بيروت إلى يوميات اللبنانيين، كما يزعم منظموه، ولا ادعاء الشعور بالغربة سيخرجه منها. فالزعمان قديمان قدم إعادة بناء قلب العاصمة، وقدم العداء لإعادة المدينة منطقة حياة العائدين من معازل الحروب المتعددة. بين ولادة اتفاق الطائف وترؤس الشهيد رفيق الحريري حكومته الأولى، 3 سنوات، لم يُقْدم خلالها، أي من الحكومات الثلاث المتعاقبة، برئاسة سليم الحص وعمر كرامي ورشيد الصلح، على تبني أي نهج لإعادة البناء، بحجة من أين نبدأ؟ كان ذلك يسهل مهمة نظام الوصاية الذي أراد للبنان أن يظل مهمشا، في العالم وفي يوميات اللبنانيين، وأن يظل في عقلهم الباطن اقتناع بانهم منفصلون، لا متصلون، فكانت الكلمة الأكثر تردادا في حواراتهم، هي المشتقة من فعل “قطع”: فهذا “يقطع” من “الشرقية” إلى “الغربية”، وذاك “يقطع” في الاتجاه المعاكس. وكان همّ الحريري أن يردم الهوة غير المرئية التي تبعد بينهم، من الجميزة إلى السراي الكبير، ومن بشارة الخوري إلى البحر، ولم يكن ذلك ممكنا من دون مخطط يدمج عراقة بيروت برؤيوية الآتي. كما لم يكن ممكنا من دون فكرة عبقرية تخرج إعادة بناء هذه البقعة العزيزة، تاريخا ومغزى، من تناحر أولويات إعادة البناء، بحفظ حقوق المالكين والمستأجرين، وتوفير رأس المال اللازم من مستثمرين خاصين، لتكون الجدوى والفائدة مشتركة للطرفين، بنسبة ثلثين للأولين إلى ثلث. بدأت الحملة على إعادة بناء وسط بيروت قبل أن يقره مجلس النواب، وكان أحد عناوينها البارزة أنه سيكون للأغنياء وحدهم. وهو ما كذبه الواقع حين عج هذا الوسط في السنوات اللاحقة، وحتى بعد اغتيال الحريري، ثم شهداء ثورة الأرز، برواد من مختلف الطبقات والمناطق. ولم تنجح محاولات اغتيال قلب العاصمة، تحت الوصاية، وبعدها، وربما في ذلك ما يفسر الحرص على احتلاله بخيم 8 آذار لسنة ونيف، منذ عام 2007، لانجاز ما عجزت عنه، والدليل عدد المؤسسات التي أفلست حينها. اليوم تتجدد محاولة إعطاء المكان انتماء طبقيا غير واقعي، فهو، قبل الحرب لم يكن متاحا لكل التجار وأصحاب الأعمال، وكانت إيجاراته، وأسعار عقاراته، أعلى من مثيلاتها خارجه، وحين دبت الحياة العامة في شارع الحمراء شهد الأخير طفرة مماثلة. وكان الموقعان متاحين لكل الطبقات، ولن يكون قلب العاصمة مختلفا عنهما، وهو لم يكن. ليس وسط بيروت ما يُحرم منه اللبنانيون، بل الدولة المتبصرة الرؤيوية، واحتكارها السلطة والسلاح، وحيوية مؤسساتها الرقابية، واحترام ساستها القوانين والدستور، وتداول الحكم واحترام إرادة الشعب. ذلك طريق إنهاء الفساد، وتنشيط الدورة الإقتصادية، وولادة فرص العمل، وإعادة بعث الطبقة الوسطى، ووسط بيروت. لا يبرئ ذلك “سوليدير” من أخطاء كثيرة أهمها فهم الدور الاجتماعي لقلب العاصمة.
بيروت:الابتذال البروليتاري والليبرالي
نديم قطيش/المدن/الإثنين 21/09/2015
لم ينجح الربيع العربي حتى الآن في محطاته الكثيرة في إنتاج خطاب سياسي أو ثقافي أو قيمي يوازي حالة الاعتراض الشعبي. بقي الاعتراض افقياً، مسطحاً، عابراً كل شيء وبلا نخب تصيغه الى أفكار محددة. في مصر عادت عقارب الساعة الى الوراء وإستعيدت “المباركية” بلا “مبارك”. نصف الثورة ونصف الانقلاب أطاحا بحكم الإخوان المسلمين لتتقدم الدولة العميقة، بما هي الجيش الى صدارة المشهد. في ليبيا سقط مع القذافي كل شيء. سقطت الدولة والمؤسسات والعقد الإجتماعي الذي كانه القذافي نفسه، بشخصه. أما سوريا فتدرجت من الثورة السلمية الى الثورة المسلحة الى الحرب الاهلية الى تحولها ساحة للارهاب الدولي، وصولاً الان الى كونها ساحة لإعادة إنتاج ميزان القوى في الشرق الاوسط في ظل الإنسحاب الأميريكي منه، وتحديداً من بوابة وصول موسكو الى اللاذقية! أما اليمن حيث اختلطت منذ البدايات الحرب الاهلية بالثورة فقد باتت ساحة حرب عربية ايرانية، وساحة اعادة إنتاج ميزان قوى إقليمي بين محوري الرياض وطهران! ولئن كانت تونس، دولة الربيع الاولى، قد استفادت من الارث المدني الدولتي الذي ارسته دولة الحبيب بورقيبة وحافظت على هياكله الاساسية تجربة زين العابدين بن علي، بقيت تونس قاصرة عن التحول نموذجاً، وبدت شمسها بعيدة لا تشع أبعد من حدود زمنها الانتقالي الحساس.
في كل هذه الساحات، لم تنتج فكرة واحدة تتجاوز الشعاراتية الغاضبة، أو القيم الاولية كالحرية والكرامة من دون تصورات نظرية وعملية ومؤسساتية تسند التوق الى الحرية والكرامة. وبدا المثقف العربي ممجوجاً وبعدة اشتغال عاطلة عن الانتاج خارج منطق الاصطفاف هنا أو هناك.
لا أعرف إن كان يجوز ادراج الحراك الذي يشهده لبنان ضمن تنويعات الربيع العربي. فللبنان دائماً خصوصيته التي تلتحم وتنفصل عن محيطها وفق آليات غامضة أحياناً ووفق سياقات حادة في خصوصيتها. لكن القاسم المشترك بين الحراك والربيع العربي هو الافلاس الثقافي والفكري وعدم تجاوز ما حاول الحراك إثارته من نقاش، الغضب المشروع على فشل النخبة السياسية المولودة بعد الطائف في تقديم أبسط الخدمات التي ينتظرها مواطن وهي معالجة النفايات! لم تتقدم فكرة واحدة حتى الان خارج دائرة الشتيمة والقدح والذم، ولم تتقدم اطروحة منسجمة غير النوستالجيا المرضية لجيل يحن الى بيروت لم يعشها ولم يتفاعل معها خارج دائرة الاستعادات الارشيفية. بل ان الكثير من السجال المطروح حول وسط بيروت يفتقر الى الوقائع الصرفة والمعطيات الحقيقية ويساجل بالانطباع والاشاعة والتهمة! سير المدن هي سير تحولاتها، وبيروت كبقية المدن لا تحاكم وفق عدسة الحنين المرضي.وهل كانت بيروت أصلاً كياناً ثابتاً لم يتغير ولم يتبدل الى أن جاء مشروع اعادة الاعمار!!! هل بيروت الستينات هي بيروت التي يحن لها بعض اهل الحراك؟ هل هو حنين لبيروت العربية، ام العثمانية، ام بيروت الانتداب، ام بيروت الجمهورية الاولى، ام بيروت الشوارع والجادات الكبرى التي شقت بعد ثورة العام ١٩٥٨ ومزقت النسيج التقليدي لأحياء بيروت الشعبية، ام بيروت الحرب الاهلية، ام بيروت اعادة الاعمار؟ أم هي بيروت التي بالتعاون بين بعض الأغنياء فيها ووالي بيروت بكر سامي بك عام ١٩١٥ تم هدم الأبنية القديمة فيها واعيد اعمار أسواقها وأبنيتها على نسق أوروبي، وشقت شوارعها العريضة التي صارت في ما بعد شوارع فوش واللنبي وفخر الدين (شارع المصارف الحالي).
بعض الحنين الذي استثمره عسس الامن في فترة صراعه مع رفيق الحريري يعاد انتاجه اليوم، علم الحراكيون أم لم يعلموا، والهدف ما زال تصفية الحساب مع مغامرة اعادة اعمار بيروت ووضعها على الخريطة. وبموازاة هذه الحنين المزيف، تندلع نقاشات مبتورة في الاقتصاد والصراع الطبقي بلا اي ركيزة واقعية او علمية، وهو ما مثله بأعلى درجات الاهتراء مشروع “سوق أبو رخوصة”، في الوقت الذي تسعى فيه شوارع المدن اللبنانية وشوارع بيروتية (بربور مثلاً) لمحاكاة الالق الذي مثلته اسواق بيروت. هكذا بدا سوق أبو رخوصة بإبتذاله “البروليتاري” الوجه الاخر لنقولا شماس بإبتذاله “الليبرالي”، والذي حاول رفيق الحريري وحيداً مواجهته يوم اصطدم بممانعة الممانعين لمشروع تحرير الوكالات الحصرية والذين تصدرهم آنذاك الرئيس المقاوم إميل لحود!للاسف يُستغل هذا الحنين اليوم في اعادة انتاج روايات العسس الامني بلا اي افق ثقافي او حراكي حقيقي، يغني النقاش حول المدينة واعادة اعمارها. والاخطر انه يؤسس لذاكرة تسقط الاسباب الموضوعية التي ضربت الدولة والمدينة والسياسة والنظام والمؤسسات والدستور وربما الكيان برمته.