المصيبة في العرب لا في سايكس – بيكو
خيرالله خيرالله /العرب/نشر في 04/01/2016،
مع بداية السنة 2016، يكون مرّ قرن كامل على اتفاق سايكس ـ بيكو الذي رسم، سرّا، خارطة الشرق الأوسط مع بدء انهيار الدولة العثمانية وتحوّلها إلى “الرجل المريض” في المنطقة. كان سايكس ـ بيكو اتفاقا بريطانيا ـ فرنسيا، علما أنّه كان في البداية بريطانيا ـ فرنسيا ـ روسيا. لكنّ الجانب الروسي لم يعد جزءا من الاتفاق بعدما اندلاع الثورة البلشفية في العام 1917 وانتقال أهل الثورة، على رأسهم لينين، إلى الاهتمام بالشأن الداخلي الروسي وتثبيت السلطة الجديدة التي أقامت “ديكتاتورية البروليتاريا”. هل كان سايكس ـ بيكو في أساس المصائب والهزائم العربية على كلّ المستويات العربية والتي يتوّجها اليوم التفتيت الممنهج لسوريا ككيان لم يرض يوما بحدوده، بل شكا دائما من أنّ ظلما كبيرا لحق به بسبب سايكس ـ بيكو؟ لم يكن سايكس ـ بيكو في أساس المصائب والهزائم بمقدار ما أنّه كان شمّاعة، علّق عليها عرب كثيرون مشاكلهم وعجزهم لتبرير تقصيرهم وتخلّفهم في آن. كانت المصيبة في قسم من العرب لم يقدّروا قيمة سايكس ـ بيكو، بل استخدموه في عملية هرب مستمرّة إلى الأمام. بعد مئة عام على سايكس ـ بيكو، تبدو المنطقة في حاجة إلى سايكس ـ بيكو جديد، خصوصا بعدما تبيّن أن العراق الذي عرفناه انتهى، وأن سوريا التي اعتدنا عليها صارت جزءا من الماضي، اللّهم إلّا إذا حصلت أعجوبة تنتزعها من براثن إيران وروسيا و”داعش” وتعيدها إلى أهلها. لا يمكن إنقاذ سوريا، ككيان، إلّا بعيدا عن النظام العلوي القائم الذي يسعى حاليا إلى إنقاذ نفسه عبر إقامة كيان خاص به مرتبط بممّر مع المنطقة الخاضعة لنفوذ “حزب الله”، أي لإيران، في البقاع اللبناني. ما جعل سايكس ـ بيكو يفشل، علما أنّه كان في الإمكان تحويله إلى قصة نجاح، الابتعاد العربي عن كلّ ما هو منطقي وواقعي، بدءا بالعجز عن استيعاب أن المطلوب منذ البداية الحدّ من أضرار المشروع الصهيوني وليس عمل كلّ شيء من أجل خدمته. نسي معظم العرب أنّ وعد بلفور الذي “ينظر بعين العطف إلى إقامة وطن لليهود في فلسطين” كان في العام 1917، أي أنّه مرتبط، إلى حدّ كبير، باتفاق سايكس ـ بيكو الذي توصلّت إليه بريطانيا وفرنسا في السنة 1916. لم يستطع العرب، عموما، فهم معنى التعاطي مع موازين القوى ببرودة وبشكل علمي. كلّ من تعاطى مع موازين القوى بعقل مستنير ذهب ضحيّة العنف والإرهاب. هناك مثلا مهمان على ذلك. اغتيل الملك عبدالله الأول (الأردني) في القدس، واغتيل رئيس وزراء لبنان رياض الصلح في عمّان، على يد عناصر من حزب فاشي، مكوّن من مجموعة أقلّيات، كان ولا يزال يعمل في خدمة كلّ ما من شأنه إنجاح عملية التدمير المستمرّة للمجتمعات العربية. كان ذنب عبدالله الأوّل ورياض الصلح أنهما حاولا إدخال بعض العقلانية إلى الرؤوس العربية الحامية والمريضة في الوقت ذاته. اعتقد معظم العرب أنّ الشعارات كافية لإيصالهم إلى ما يطمحون إلى تحقيقه. لم يفرّقوا يوما بين الحقيقة والخيال. لذلك لم يتعاطوا مع سايكس ـ بيكو كحقيقة وواقع. لم يعملوا على تطويره. حاولوا تجاوزه، وذلك من أجل تدمير ما بقي من كيانات سياسية كان للاتفاق البريطاني – الفرنسي الفضل في قيامها.
من قرار التقسيم في 1947 الذي رفضه العرب، إلى الانقلاب العسكري في سوريا عام 1949، إلى الانقلاب العسكري في مصر في 1952، إلى حرب السويس في 1956، التي كانت كارثة مصرية بكلّ معنى الكلمة، وصولا إلى التخلص من النظام الملكي في العراق صيف 1958، مرورا بالوحدة المصرية – السورية التي أسست لنظام الأجهزة الأمنية في سوريا و”الإشتراكية” التي تُفقّر المواطن، استمرّ مسلسل المآسي. توّج هذا المسلسل باستيلاء البعث، بكلّ تخلّفه، على السلطة في سوريا والعراق وتكريس لاجتياح الريف للمدينة والقضاء على كلّ ما هو حضاري فيها.
لم يكن هناك عقل عربي يمنع كارثة حرب 1967، التي لا تزال المنطقة تعاني من نتائجها إلى يومنا هذا. لم يكن هناك عقل عربي يمنع سقوط لبنان ويتحسّب لمعنى هذا السقوط ولنتائجه في المدى الطويل. عندما شجّع العرب، على رأسهم النظام الأقلّوي في سوريا، على إغراق لبنان بالمسلّحين الفلسطينيين والسلاح المرسل إلى الميليشيات الطائفية ثمّ المذهبية، كانوا يزرعون بذور المآسي التي نعاني منها اليوم، على رأسها المأساة السورية. لم يعد مستبعدا أن تأتي السنة 2016 بالخطوط العريضة لسايكس – بيكو جديد بمشاركة روسية علنية هذه المرّة، في حين سيحلّ الأميركي والإسرائيلي، وربّما الإيراني أيضا، مكان البريطاني والفرنسي، أي مكان السيّديْن ماركس سايكس وفرنسوا جورج بيكو.
لم يمتلك لبنان ما يكفي من المناعة الداخلية لمواجهة العقل التخريبي للأنظمة العربية التي تآمرت من أجل حصر الصراع مع اسرائيل بأرضه وبأهل الجنوب المظلومين تحديدا. شاء هذا العقل العربي التخريبي المتخلّف معاقبة لبنان على اتخاذه قرارا صائبا وحكيما يقضي بعدم مشاركته في حرب 1967 بغية المحافظة على أرضه. فُرض على لبنان اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969 عقابا له على اعتماده الحكمة والتروّي. لا يزال البلد يعاني من نتائج هذا الاتفاق، خصوصا بعدما حلّت ميليشيا “حزب الله” مكان الميليشيات الفلسطينية وذلك من أجل تكريس لبنان “ساحة” استخدمها النظام السوري طويلا، وتستخدمها إيران اليوم بالشكل الذي يخدم مصالحها التي لا تبدو بعيدة بأي شكل عن المصالح الإسرائيلية. كان سايكس ـ بيكو نعمة، لم يستطع أي نظام عربي المحافظة عليها والتكيف معها والعمل على تطويرها بما يخدم أهل المنطقة ومستقبل أبنائهم. على العكس من ذلك، استُخدم سايكس ـ بيكو عذرا ليقمع كلّ نظام شعبه باسم فلسطين أحيانا، وباسم الوحدة العربية ومواجهة الاستعمار والإمبريالية العالمية في أحيان أخرى. لم يكن العرب من أهل المشرق، يستحقون سايكس ـ بيكو. هل سيستحقون ما سيخلف سايكس – بيكو في ظلّ “داعش” والمشروع التوسّعي الإيراني الذي ألغى الحدود المعترف بها بين الدول العربية لمصلحة الرابط المذهبي؟
هل ستكون المشاركة الروسية في سايكس ـ بيكو الجديد مساهمة إيجابية في مجال رسم خريطة جديدة أكثر استقرارا للشرق الأوسط؟ الأكيد أن الجواب هو لا وألف لا، خصوصا أن روسيا – فلاديمير بوتين دولة مريضة من كلّ النواحي، فيما المشروع التوسّعي الإيراني لا يمكن أن يكون له أيّ مستقبل لسبب في غاية البساطة. يعود هذا السبب إلى أنّ ليس لدى إيران الحالية أيّ نموذج سياسي أو اقتصادي أو حضاري تقدّمه، باستثناء استثارة الغرائز المذهبية والبناء على ما يتبع ذلك. إنّه مشروع قائم على التدمير من أجل التدمير ليس إلا. كم سيترحّم العرب على سايكس – بيكو في ذكرى مرور مئة عام عليه. كان هدية من السماء لم يتمكّنوا من المحافظة عليها، لا لشيء سوى لأنّهم لم يدركوا منذ البداية معنى أن تكون لديهم دول وأنظمة سياسية قادرة على تطوير نفسها بنفسها، بدل اللجوء إلى الأنظمة العسكرية والأجهزة الأمنية التي وُلدت من رحمها الميليشيات المذهبية، من “داعش”، التنظيم السنّي اسما، إلى “الدواعش” الشيعية بتسمياتها المختلفة.